نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ذاكرة تتدفق... مواجهة النهر في رواية سعيد خطيبي - المصدر 24, اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025 05:45 مساءً
المصدر 24 - لا يكتب الإنسان عن الماضي لأنه مستدرج إلى الحنين، بل لأن ما وقع لم يخرج من جسده بعد. هناك أزمنة تبقى تعمل تحت الجلد، مثل طبقة تحتية للعمر، لا نراها ولكن آثارها لا تكفّ عن الظهور في الصوت والمشية وطريقة الدفاع عن النفس أمام العالم. من هنا، تبدو رواية سعيد خطيبي "أغالب مجرى النهر" ليست عودة إلى الوراء، بل اقتراباً من حرارة جرحٍ لا يزال حيّاً ويُعيد تشكيل الحياة اليومية في الحاضر.
هذه الرواية، الصادرة حديثاً عن دار هاشيت أنطوان/نوفل، لا تقترح سرداً تاريخياً بالمعنى المدرسي، ولا تُجمِّل حرب التحرير ولا ما تلاها. بل تفعل العكس: تُعيد إظهار ما تركته تلك الحروب من شظايا في البيوت والذاكرة: كيف يتحوّل الأب المناضل إلى متهم، كيف تكبر البنات على ظلال الخوف لا على حنان الأمهات، وكيف يصبح الزواج تسوية مع المجتمع لا تتويجاً للحب. الذاكرة هنا ليست عرضاً ماضوياً، بل مادة خام تشكّل أخلاق الشخصيات وخياراتها ومصائرها.
الروائي سعيد الخطيبي (مواقع)
ذلك الجسر بين الخاص والعام هو ما يمنح الرواية وهجها. التفاصيل اليومية — سيارة رينو تراقب بطلة القصة، مقهى ارتاده الثوار والفرنسيون معاً، أرقام هواتف محفوظة في الذاكرة، حضور شارلي شابلن المتنكر وسط مدينة مجروحة — تتحول إلى علامات على معركة أعمق: صراع الفرد مع ما ورثه من تاريخ لم يختره. فمشهد الرينو ليس مشهداً بوليسياً فقط، إنه استعارة لرقابة الماضي على الحاضر. وشابلن ليس طرفاً فنياً عارضاً، إنه تذكير بأن الضحك نفسه قد يولد من قلب المأساة، وأن الفن قد يكون آخر طريقة للدفاع عن النفس أمام ذاكرة لا ترحم.
قصة عقيلة، طبيبة العيون المتهمة بقتل زوجها، لا تُقرأ كحادثة جنائية في بداية التسعينيات، بل كطبقة من تاريخ عائلي وقومي متداخل. الأم التي كانت تُعدّ السموم للمجاهدين، الأب الذي يحمل ندبة الكي على ظهره كختم اتّهام لا يمحى، الابن الذي حاول اقتلاع كلية من مشرحة لينقذ حبيبته، الجارة التي تنتقم من رجل لوّث سمعة زوجها المناضل… لا أحد هنا بريئاً بالكامل، ولا أحد مذنباً بالكامل. الجميع نتاج زمنٍ سبقهم، وجميعهم يحمل على كتفيه نصيباً من التاريخ حتى عندما يظن أنه يهرب منه.
وجود الصحافي بودو في الرواية ليس مجرد حدث جانبي، بل رمز للذاكرة الحية والعدالة المعلقة. هو الشاهد الذي يوثّق التاريخ، والأمل الذي يعلّق على صفحات النهر، بينما تصطدم الشخصيات باتهامات وزيف الحقيقة. غيابه في النهاية يترك الفراغ مفتوحاً، مؤكداً أن التاريخ لا يُكتَب إلا بصوت يجرؤ على المواجهة، وأن العدالة تبقى حلمًا يوازي صراع الفرد مع جماعته وذاكرته.
من أجمل ما في الرواية أنها تترك للقارئ فراغاً داخلياً يتأمل فيه ذاته. ليست قراءتها متعة حبكة فقط، بل تجربة مواجهة غير معلنة: ماذا صنع بنا تاريخ بلادنا؟ بأي معنى نُحاسب فرداً بينما جذره الاجتماعي والسياسي غارق في نهر أطول منه؟ وهل يمكن للحاضر أن يتعافى من ماضٍ ما زال يكتب يومياته بصمت؟
يفعل سعيد خطيبي ما يفعله الكتّاب الذين لا يساومون الذاكرة: لا يقدّم بطولة ولا يبني تمثالاً لأحد، بل يكشف هشاشة البشر الذين حُملوا فوق طاقتهم. هكذا يصبح النهر في العنوان ليس استعارة للزمن فقط، بل لِهذا المجرى الذي يجرف الأفراد ويعيد ترتيب مصائرهم، مهما حاولوا مجابهته.
"أغالب مجرى النهر" ليست رواية تُنهيها فتطويها على الرفّ، بل واحدة من تلك الكتب التي تبقى مفتوحة في العقل بعد آخر صفحة، لأن سؤالها الأساسي لا ينغلق:
هل نملك حقاً أن نغامر بتغيير مصيرنا، أم أننا — مثل أبطالها — لا نفعل أكثر من مجاراة التيار ونحن نظن أننا نغالب مجراه؟















0 تعليق