قصة اليونيفيل والدبلوماسية اللبنانية... من إعادة التشكيل إلى نوافذ ومنافذ القرار 2790 (2025) (الجزء الثاني) - المصدر 24

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قصة اليونيفيل والدبلوماسية اللبنانية... من إعادة التشكيل إلى نوافذ ومنافذ القرار 2790 (2025) (الجزء الثاني) - المصدر 24, اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 08:16 صباحاً

المصدر 24 -  جبران صوفان - سفير لبنان لدى الأمم المتحدة في جنيف سابقاً

 

قرارات اليونيفيل أشبه بشجرة العائلة التي يشكّل أفرادها نسيجاً غنياً لتاريخها، مترابطين وإن كانوا مختلفين       في مواصفاتهم وصفاتهم، ولكنّ الجينات الوراثية واحدة. ترقى نشأة اليونيفل الى القرار ٤٢٥ تاريخ ١٩ آذار ١٩٧٨. ومن ربّ  العائلة ،انحدرت فروع كثيرة حتى أصغر مواليدها وهو القرار ٢٧٩٠ تاريخ ٢٨ آب ٢٠٢٥، بل هو آخر مرحلة عمرية في الرسم البياني لهذه الأسرة الدولية. فبحلول ٣١ كانون الأول ٢٠٢٦، تصل اليونيفيل الى منتهى الطريق. ومن سخرية القدر أن تكون وكالتها الممدّدة هي الأخيرة دون أن يعني ذلك بالضرورة أن أهدافها قد تحقّقت وغياهب الظلمة عن لبنان قد إنقشعت.

 

ملخّص عن الجزء الأول
عرضت في الجزء الأول من دراستي لنشأة اليونيفيل وظروف الولادة ومهارة الطبيب وصحة المولود.           وبالرغم من هشاشة مجلس الأمن الدولي الملازمة له حتى تاريخه بفعل تركيبته وموازين دوله الدائمة العضوية، حاز لبنان على القرار ٤٢٥ بفضل شراكة ثلاثية تمثّلت بالرئيس العصامي والرؤيوي الياس سركيس          و"صلابة وقدرة" وزير خارجيته فؤاد بطرس وسفيره الإستثنائي "الفعّال والنشيط" غسان تويني،  كما أبدى آنذاك وزير خارجية دولة عظمى، مشيداً "بفريق ممتاز خدم المصالح الوطنية بطريقة جيدة". 

 

فقد انكبّ الثلاثة على "لبننة الجنوب وليس تدويله أو تدويل لبنان بأكمله (تويني، المقدمة Peace-Keeping) إذ كان فعلياً مسلوخاً عن لبنان، مختطفاً من دولته . وسعوا إلى اعتماد "حلّ جذري" يضع حداً "لدورة العنف القائمة على عمليات فلسطينية تقابلها إعتداءات إسرائيلية " تقع تداعياتها المدمّرة على اللبنانيين. (بطرس، المذكّرات)

 

لم تكن طريق مجلس الأمن جادة الفرح، ليس فقط لأن مسلكه وعر ومحفوف بمخاطر تناقضاته بل لكثرة الألغام الشعبوية ولمواقف عربية  تجنّدت لطرح المشكلة الفلسطينية على حساب القضية اللبنانية فيما مآسي اللبنانيين وخاصة الجنوبيين منهم  أشبه بالأضرار الجانبية. فتوجّب على المندوب الدائم في نيويورك فكّ هذا الطوق مدعوماً بصمود وزير الخارجية. واعتُمِدَ القرار ٤٢٥ وفق أولويات الحكومة، واقتضى لاحقاً حمايته من محاولات تفخيخه وإسقاطه. 

 

(كتاب 425، من محفوظات غسان تويني، تحقيق فارس ساسين)
عرفنا بداية القوة الدولية، وبعد حوالي خمسة عقود، نجهل النهاية، ونتساءل ماذا بعد إسدال الستار عليها ؟
وإذ لا يجوز الجزم بأية بدائل لم تأتِ ساعتها بعد، إلاّ انه يمكن محاولة إستقراء بعض معالم المستقبل                  من خلال تجربة  الماضي ومؤثرات الحاضر، والمنافذ والنوافذ التي أبقى عليها القرار ٢٧٩٠ مفتوحة.
أولاً– التطورات الخاصة باليونيفيل وإعادة تشكيلها.

1- المستقبل من خلال الماضي ومؤثرات الحاضر.
عن المستقبل المجهول،  تتطلب  الأجوبة بإعتقادي رصد النجوم أو الركون إلى العقول. في الطرح الأول،         يكون التنجيم أحياناً "ثقافة السلطة"، فيستعين بعض السياسيين بالعرافة، منهم على ذمّة الراوي الرؤساء الراحلين رونالد ريغن وزوجته نانسي وجورج بوش (الأب) وفرنسوا ميتران وآخرين من  الهرم السياسي ، مثاله شيوخ ونوّاب يستشيرون عرّافة كما أسرّت  خلال جلسة استماع ومناقشة لإقتراح قانون النائب الاميركي Sole Bloom  بتاريخ ٢٦ شباط ١٩٢٦ (spiritualism trial 21 October 2020 ). وفي لبنان لا حاجة برأيي الى منجّمين، فمعظم السياسيين هم نجوم، ومع ذلك لا يزال الضوء خافتاً في بلد لا يحتمل البقع العمياء ولا التعامي في مسيرته. 

يتبيّن لي بأن عوامل عدة تتحكّم ببدائل القوة الدولية ، منها المكوّنات اللبنانية، المؤثرات الخارجية في محيطه، الحالة الميدانية والسلطة المركزية، فيما ضابط الإيقاع حسب المقتضى البديهي هو العقل . قد يفيد التاريخ لاستشراف بعض معالم المستقبل بالنظرالى تجربة إعادة تشكيل القوة الدولية  في لبنان Reconfiguration والمقصود بذلك تحوّلها عديداً ومهاماً تبعاً  لتطوّرحالة الميدان ، ومَن يقف خلفه . لذلك وإستناداً الى الأحداث فيه، والحملات والتحامل والإجتياحات والإعتداءات الإسرائيلية، وأدوار ورسائل اللاعبين غير الدول Non state  actors منذ عام ١٩٧٨، أعتقد بأن الفعل والتفاعل متلازمان بين اليونيفيل ومنطقة عملياتها . وما طرحه سركيس وبطرس وتويني من حيث فصل الحلول في جنوب لبنان عن الشرق الأوسط المتأزّمم ، ما أمكن ، ربطه اللاعبون على الساحة اللبنانية  أو عبرها.  ليت "حبل السرّة" اللبناني كما قلت في مقال سابق اكتفى بقضية واحدة بالتكافل والتضامن والتكافؤ مع الأخوان العرب لربما أمكن التحكّم بوقعها واحتواء مفاعيلها ولجم امتداداتها. المشكل في لبنان أننا مقيّدون بحبال وسرر، فمعظم الأطراف الحبلى بالأزمات في منطقتنا كانت تستخدم   قابِلة لبنانية للإنجاب في بلدنا وتخلّف في بطنه تجاويف السُرر. قد تكون اليونيفل شاهدة على تلك الأزمات وربما تملّكها الإحباط لعدم حلّها وإن يكن فضلها مبيناً علينا.

2- قوّة  حفظ السلام والقوات  الأممية الأخرى.
 إن مغادرة القوة الدولية لا تعني إقفال الباب أمام قوات أممية أخرى،  فاليونيفيل لا تختزل مهام حفظ السلام في العالم، لأن قوّات حفظ السلام متعددة ومتنوعة وتختلف من حيث مهامها وبيئة عملياتها. وقديماً  عرض   Bowett  D.W.  في دراسته القانونية UN Forces: a legal study لتسعة أنواع (وهورقم متغيّر) منها رصد وقف إطلاق النار والهدنة الموكولة الى مراقبين، مراقبة الحدود، الفصل بين المتنازعين لضمان وقف الأعمال العدائية، الدفاع والحماية عن المناطق تحت إشراف الأمم المتحدة، الحفاظ على الأمن والنظام في بلد، الإشراف على إستفتاءات بشأن تحديد وضع أراضٍ خلافية بين دولتين، المساعدة والإغاثة في حالات الكوارث، منع الجرائم الدولية، عمليات نزع الأسلحة.

بطبيعتها، إن عمليات حفظ السلام تطوّرية، وبالرغم من إختلاف مهامها، فإنها تستفيد من تجاربها المتبادلة.

3-  التأثّر بتجربة إعادة  تشكيل القوة الدولية.
أما على صعيد اليونيفيل، فقد خضعت أحياناً لإعادة تشكيل  بناء على قرارات مجلس الأمن، ما أدّى الى تخفيض عناصرها وإنحسار مهامها لتقتصر على رصد إنتهاكات الخط الأزرق والتحقّق من ذلك، وتصحيح الخروقات والتواصل مع الأطراف ومع مرجعية الأمم المتحدة. وبفعل الإعتداءات والإجتياحات الإسرائيلية ومنها الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢، والمعوقات الميدانية من الإسرائيليين  ومن اللاعبين غير الدول، تحوّل اهتمام  اليونيفيل، على وجه الخصوص في تلك الظروف، الى أعمال الإغاثة والحماية والى الجهود الإنسانية. وبالرغم من تعديلات إعادة  التشكيل ، من الملاحظ ثبات العلاقة والتكامل في العمليات بين اليونيفيل وهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة UNTSO التي تأسّست عام ١٩٤٨ والتي تواصل توفير مراقبين عسكريين "لمساعدة اليونيفيل في تأدية مهمتها" وفقاً لتقرير الأمين العام المرجعي الأول S/12611 المعتمد بالقرار 426 تاريخ 19 آذار 1878 فقرة 2(هـ) و9(و). وقد بلغ عددهم حتى تموز 2025  "44 مراقباً يعملون مع فريق المراقبين في لبنان OGL ويخضعون للقيادة وللسيطرة التشغيلية لليونيفيل" (تقرير الأمين العام الدوري عن القرار 1701 تاريخ 11 تموز 2025)، علماً بأن اداء هذا الدور الرقابي والرصدوي يأتي إستجابة للقرارات الدولية وكذلك بموجب مقتضيات اتفاقية الهدنة لعام 1949 ولاخلاف عليه بين الولايات المتحدة وبقية الدول الاعضاء في مجلس الامن.
ثانياً– اليونيفل: إنحلال أو تحوّل، انتهاء بالقرار الأخير 2790 (2025).

 

عاشت اليونيفيل مرّات على شفير الهاوية وتعرّضت لإعتداءات إسرائيلية متعمّدة، موّثقة في تقارير الأمين العام الخاصة بالقرار 1701 عن فترة حرب الإسناد وما بعدها، أحدثها " الهجمات"  عليها بواسطة المسيّرات خلال شهر تشرين الثاني 2025، كما ورد في البيانات الصحفية الصادرة عن مكتبها الإعلامي.   

 

 وفي السوابق، أشير إلى  الإعتداء على الكتيبة الفيجية التابعة للقوة الدولية بتاريخ 18 نيسان 1996، الذي عُرف بمجزرة قانا وأدّى إلى استشهاد 106 من المدنيين اللبنانيين وإصابة آخرين بجروح، وكذلك مقتل أربعة مراقبين غير مسلحين من حفظة السلام التابعين لهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة أثناء غارة جوية إسرائلية على أحد مراكز المراقبة  بتاريخ 25 تموز 2006. وأرجّح  أن تؤدي هذه القوّة مستقبلاً دوراً مفعّلاً بعد مغادرة اليونيفل كأحد الخيارات المنتظرة.

 

كما تلقّت القوة سهاماً مبرحة من لاعبين فلسطينيين ولبنانيين، ولربما تقاطعت الأهداف لإحراجها فإخراجها      او لعزلها فإعتزالها بتجاهل لموجب حماية وسلامة أفرادها. ومع ذلك صمدت في منطقة عملياتها لمساعدة الدولة اللبنانية في بسط سلطتها وسيادتها. ولكن "دايماً بالآخر في آخر، في وقت فراق". هكذا غنّت السيدة فيروز على مسمع الله . وعلى طريقته، كتب مجلس الامن "نشيد" الوداع   بتاريخ 28 آب 2025، إيذاناً برحيل القوة الدولية.

1- مواصفات القرار 2790 تاريخ 28 آب 2025.
أ- إنهاء مهمّة وليس إنتهاؤها.
لخروج اليونيفيل أو إخراجها من لبنان بروتوكولات إذا جاز التعبير. ولكن تلك النهاية تحديداً تذكّرني بالمحكمة الخاصة بلبنان (STL). ففي الحالتين تتكرّر التصفية قبل أوانها. في المحكمة الدولية، لم تكتمل المحاكمات لتشمل الهجمات الأخرى المرتبطة بحسب المحكمة بتفجير 14 شباط 2005، فأتت العدالة مبتورة.  ويبدو لي بأن  مجلس الامن عجز عن تخصيص الوقت الكافي لمتابعة اليونيفيل إنجاز مهامها ، بل استكان تحت وطأة الضغوطات لإنهاء وكالتها. فلم يكن إتمام المهام المسعفة هي الاولوية في الظروف الصعبة بقدر ما هي إخراج اليونيفل من الساحة اللبنانية. 

 

ب- قرار وازن، دون "وزنات" كبيرة. 
إن القرارات المثالية المتعلقة بمعالجة النزاعات والأزمات الدولية على قاعدة العدالة غير موجودة                         في مجلس الأمن الدولي وربما ينفرد بها الذكاء الإصطناعي. إعتبارات مختلفة تتحكّم بصياغة قراراته،            منها المصالح وحق النقض لحمايتها أو المساومات والتسويات ودورالميدان ، ومقتضيات التعايش مع المراوحة  بدلاً من تداعيات المواجهة فالمجابهة الراكضة في عالم يعاني ليس فقط من جفاف البيئة بل من تجفيف الأستقرار  ومن أهواء الأقطاب. وفي المشهد الإقليمي، أرى تطاحن المصالح وأخشى على لبنان أن يصبح طحيناً إذ تخلّف عن النأي بنفسه ، ويستحيل برأيي تصحيح المسار إلا بقيادة الدولة، وليس أية دولة بل دولة قادرة وعادلة تَحْكُم ُولا تُحكَم بآلة تَحَكّم.

 

وما يحدث أحياناً لدى التفاوض على قرار دولي ، تأميناً لتوافق على مساحة مشتركة ، أنّ تقليم مشروع القرار  بمقصّ التعديلات  يفقده سياقه الطبيعي أو بعض المسلمات البديهية.  أما بشأن القرار الأخير ٢٧٩٠، وفي ضوء  بعض القيود العامة التي ذكرتها، فإنه وازن من حيث مكسب التمديد النهائي والحث على تكثيف الدعم للبنان وجيشه والإبقاء على بعض "الخيارات" مفتوحة. ولكنه لا يخلو من بعض التناقض ويقف على حافة الإنسداد في الحلول ولا  يتضمن برأيي "وزنات" ملموسة للبنان قياساً على منسوب الخطر على السلام والأمن الدوليين كما يشير المجلس في الديباجة- المقدمة، بعد مستجدات حرب الإسناد على أراضيه وحاجة الدولة اللبنانية للمساعدة الميدانية الملموسة، عديداً وعتاداً وموارد والتي أبقاها القرار ضبابية  ضمن "خيارات" المستقبل وحتى إشعار آخر.

 

ج- توازن غير متزنٍ. 
في مداخلته بعد إعتماد القرار 2790، أشار سفير جمهورية كوريا، المشاركة في اليونيفيل، الى أنه قائم             على "التوازن الحذر" بين حاجتين، التمديد لوكالة اليونيفل وإنهائها لغير سبب. وحيث أن الحاجة الى اليونيفل تعاظمت بعد حرب الإسناد، أثنى معظم المندوبين الدائمين على وجودها الضروري ودورها الأساسي.             ومع ذلك وتلافياً للنقض الأميركي، تغلبّت التسوية على الحاجة. ولم يلحظ القرار تطمينات كافية بما يزيل الخشية من المجهول ومن "التنفيذ الإنتقائي" بدلاً من التنفيذ الكامل للقرار 1701، كما نبّه الى ذلك سفير الجزائر، ما يلقي تبعات على إسرائيل وسائر الأطراف المعنية.

 

د- التخوّف الدولي من تداعيات إنسحاب اليونيفيل.
تخوّف كثيرون من أعضاء المجلس من "إمكانية حدوث فراغ" في حال الانسحاب المبكّر لليونيفيل            وتساءلوا عن المرحلة الضبابية بعد إستحقاق 31 كانون الأول 2026، مما يوجب بنظرهم التنسيق مع الأمين العام بشأن وضع "الخيارات" عملاً بالفقرة 10 من القرار الأخير "لمنع حدوث خواء أمني" (مندوبو فرنسا، إنكلترا، روسيا واليونان) وإستتباعاً، "الإبقاء على جهوزية مجلس الأمن لإعادة النظر في قرار التمديد الأخير بحسب الحالة على الأرض" ، كما طالب مندوب الجزائر. 

 

هـ - إنسحاب اليونيفيل المناقض لمبررات إنشائها: مسألة السلام والأمن الدوليين.
باعتقادي إستعصى على المجلس تجاوز بعض التعارض أو النواقص بين وصف الوضع السائد والحلول المرحلية التي خلص إليها وأهمها سحب اليونيفل. فالفقرة الأخيرة من مقدّمته تشير الى أن الحالة في لبنان لا تزال تشكّل خطراً "يهدد السلام والأمن الدوليين". أكثر من ذلك، في الفقرة العاملة ١٦ منه، يؤكد المجلس (مجدداً)  إرتباط موضوع لبنان "بأهميّة وضرورة تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط".

 

ومن خلال مدلولات الفقرتين والحالة السائدة في المنطقة، يمكن للخطر المشار اليه ومشكلة الشرق الأوسط الإطباق على لبنان ،لا سمح الله ، ما لم تتحقق الحلول الجذرية. وحتى إشعار آخر، أتساءل إذا كان مجلس الأمن مقتنعاً  بجدوى توقيت سحب اليونيفيل (الفقرة العاملة 5) وبقدرة لبنان منفرداً على إتخاذ الأعمال والتدابير الآيلة الى إزالة الخطر عنه وعن سواه في المنطقة.  بطبيعة الحال  وحسب قناعتي، الجواب  هو  قطعاً لا.
في مطلق الأحوال ، لم يعد ممكناً  الإكتفاء  باقتصار مهام اليونيفيل على تردّي  السلام والامن الدوليين في جنوب لبنان من أصل ثلاثة أهداف وفقاً لتقييم الامم المتحدة بعد أيار 2001 ، فما نتج برأيي عن حرب الإسناد المشؤومة  هو " عود إلى بدء" أي الحاجة الماسة إلى تنفيذ القرار 425 بكافة مندرجات وأهدافه، موسّعاً بالقرار 1701 بعد نقل إطار التنفيذ إلى إتفاق الترتيبات الامنية ومنع ألأعمال العدائية حيث الدور محوري للجيش اللبناني ، وإنما دون المساعدة العملياتية لليونيفل بعد عام 2026.

 

ثالثاً – ما بعد إنسحاب اليونيفل: "تنبؤات"، تكهّنات وبالحدّ الأدنى تفعيل دور هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة.

 

1- رؤيوون من لبنان.
من حيث الإحتلالات والأضرار ومآسيها لم تتبدل الأمور كثيراً على اللبنانيين منذ عام 1978، فمذاقها دائماً مرّ وإن كان بجرعات متزايدة  وخطيرة ونكهات مختلفة. وبالمقارنة مع الأحداث التي توالت على لبنان حتى تاريخه، أعتقد بأن فضيلة البيان الوزاري لحكومة الرئيس الحصّ بتاريخ 8 آب 1979 تكمن في طابعه الرؤيوي، إذ أدرك "أن إحدى غايات الإعتداءات الإسرائيلية إحراج القوات الدولية وإذلالها وتحطيم معنوياتها وحملها بالتالي على الانسحاب من لبنان. لذلك (يضيف الرئيس الحصّ) ستدأب حكومتنا على السعي لتفويت هده الغاية على إسرائيل من خلال التعاون مع الأمم المتحدة ...".

وكمرجعية دولية  رفيعة تجهد لإستيعاب الأضداد تحت مظلّة القانون وبالوسائل الدبلوماسية، أرى بأن التعاون الوثيق مع الأمم المتحدة حيوي وحتمي، خاصة وأن "إسرائيل (كما يقول تويني بتاريخ 20 آب 1979 في إحدى تنبؤاته) تعلن عن الضربات الإستباقية، متجاهلةً تماماً القانون الدولي وقوانين التاريخ". وبإستثناء الدولة اللبنانية، من المؤسف القول إن التعاون  الكامل مع اليونيفل لم يشمل كل الأطراف في جنوب لبنان. 

2- نوافذ ومنافذ القرار 2790.

أمّا وقد أصبح الانسحاب من لبنان مبرمجاً، بموجب القرار 2790 (2025)، فأشير الى بعض  فقراته العاملة والخاصة بالنوافذ أو المنافذ في كيفية التعاطي مع  فجوة مغادرة اليونيفل والتي تعكس إرادة مجلس الأمن في:
أ- أن يُبقي المسألة قيد نظره (فقرة عاملة 16).
ب- طلبه من الأمين العام "أن يبحث ... في خيارات المساعدة فيما يتعلق بأمن الخط الأزرق             
          وسبل تعزيز الدعم المقدّم لإعادة إنتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني بإستخدام أدوات                 
          الأمم المتحدة "(فقرة 10). 

 

ج-  وبناء  على الفقرة ( هاء) من تقرير الأمين العام  المرجعي الأول رقم   S/ 12611  تاريخ 19 آذار 1978 يستمر عمل المراقبين العسكريين (الذين إستعانت بهم اليونيفل) على خط حدود الهدنة بعد فترة  إنتهاء إنتداب قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان .  وقلّما ذُكِرَت هذه الفقرة المهمة في المداولات الدبلوماسية. 

 

3- تكهنات عن بدائل اليونيفل الحالية.
لمست من خلال مواقف مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن بتاريخ 28 آب الماضي حرصاً على دعم مسيرة الدولة وعلى تلافي الفراغ أو التداعيات السلبية التي  قد تنتج عن إنسحاب اليونيفيل من لبنان وإن كان  من المبكر تصوّر البدائل سواء لناحية "أدوات الأمم المتحدة" أو غيرها من الوسائل خارج المنظومة الدولية. ويتهامس البعض بقوات متعدّدة الجنسيات أو عودة المارينز والتي برأيي لا تتعدّى الأفكار الضبابية والإجتهاد والتكهّنات والنظريات العامة التي تدغدغ الخيال أحياناً إن لم نأخذ  في الإعتبار دراسة التاريخ والسوابق في الحالتين ، والعوامل البديهية المؤثرة وأهمها إصرار المجتمع الدولي على توّلي الدولة اللبنانية ، وليس سواها، بسط سلطتها بواسطة قواتها الذاتية وحصرية السلاح بأيدي عناصرها، وهي مبادىء تمسّكت بها الدولة في العهد الشهابي الثاني توطئة  لانتشار اليونيفل في جنوب لبنان . ويقتضي الوعي للحسابات الإقليمية  والداخلية ، ومخطّطات السلام ، ونضوج الخيارات إضافة إلى قبول الدولة اللبنانية بها والوفاء بالتزاماتها . وعلى سبيل المثال ، يعكس القرار 1701 موافقة الحكومة اللبنانية على قوات حفظ السلام وطلبها" بمساعدة قوات إضافية" منها   عام 2006 حسب الضرورة  وعلى أساس مهام محددة ( فقرة 8 من الديباجة والفقرة العاملة11 ) ، وهذا يعني استبعادها القوات المتعددة الجنسيات التي كانت مطروحة  بموجب الفصل السابع  في مسودّة  قبل اعتماد القرار المذكور.

 

4- من حقيقة الكبار: السفير الراحل سليم تدمري و "اليونيفيل الصغيرة"، والدور الرقابي.
وحتى تستوي "الخيارات" تتكاثر النظريات في بلد يحتاج الى نجوم تاريخه أكثر من التنجيم،  ومهما أكثرنا   من المقارنات الجوفاء والتشبيهات الحمقاء والتي  تسيء إلى المشبّه به والمشبّه ، فلن نطال سموات أولئك العمالقة، فالسموات بعيدة ويدنا قصيرة . مشكلة الرجال في لبنان كبيرة والفجوة هي أكبر، ولا زلنا حتى اليوم نستذكر كواكب الدبلوماسية اللبنانية سواء لأدوارها الفاعلة في نشأة اليونيفل أو المساهِمة في إنجاح مهامها أو الواعية بدقة لطروحات مسيرتها. وفي هذا الصدد، لا أستبعد إلإستئناس، ضمن تصوّر"الخيارات"، بأحد الطروحات القديمة لمجلس الأمن  والمتعلّق بتحويلها إلى "قوة مراقبة" ، كما نبّه في أوقات مختلفة السفير الطيّب الذكر سليم تدمري من مركز عمله في نيويورك  منذ ربع قرن. ففي تقرير مؤرخ في 21 تموز 2000 أي غداة الانسحاب الإسرائيلي، غير المكتمل، أشار الى التداول في إمكانية إنهاء مهمة القوة الدولية وتحويلها الى "يونيفيل صغيرة". وبتاريخ 17 كانون الثاني 2002  أكّد التوجه الى جعلها "قوة مراقبة" ، بناء على توصية أمين عام الأمم المتحدة في تقريره الدوري  S/2002/50 تاريخ ١٦ كانون الثاني 2002 ولاسيما الفقرة 27 منه. 

 

في الواقع، ما بين نشأة اليونيفيل عام 1978 وثبات مهامها بموجب القرار 1701 عام 2006، تبدو لي تلك المهام أشبه بعملية المدّ والجزر، أو بتحرّك التسونامي وخموده. ألاحظ من خلال تتبّع تاريخ القوة الدولية                 بأن الاستقرار النسبي  في الجنوب إثر إنسحابات إسرائيلية كان مدعاة لإعادة تشكيلها - وأحياناً التريّث لحين انحسار التوتر في المنطقة – لتصبح مرحلياً أقرب الى قوة مراقبة (التقرير الدوري S/2001/66  تاريخ 22/1/2001، الفقرات 22 الى 24 والتقرير الدوري S/2002/55 تاريخ 16/12/220). وفي حالات التوتر الشديد ، إكتفت مكرهة بالمراقبة.

 

لذلك ومهما كانت الطروحات مستقبلاً، لا أستبعد أن نشهد بحينه دوراً بارزاً لهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة UNTSO بالرغم من قناعتي بأن دورها الضروري والمشكور لا يكفي وحده لتنفيذ اتفاقية الهدنة لعام 1949 ولدعم إنتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وقدرته على تحمّل الأعباء الجسام  وترسيخ الاستقرار فيه،علماً بأن إتفاقية الهدنة هي أهم وثيقة مرجعية و مظلّة قانونية ، تأكيداً واحتراماً لسيادة  لبنان وحدوده وسلامة أراضيه.

 

في الخلاصة، سيفتقد اللبنانيون الى اليونيفيل لعملياتها الميدانية الداعمة لجيشهم ولأعمالها الإنسانية ومشاريعها الحِرَفية والتنموية  والرعاية الصحية للجنوبيين ، خاصة إذا لم تلبّ "الخيارات" البديلة متطلبات الوضع المتأزم. وسيدركون قيمة الوشائج والإنجازات والعناية والإعتناء بعد رحيلها، فيقظة الحنين وصحوة الضمير تليان فقدان حبيب أو غياب صديق، وإن تقاطعت مشاعر الخيبة أحياناً عند اللبنانيين واليونيفيل معاً. فقد حملت قوة حفظة السلام راية السلام دون إستسلام وإنما دون التمكّن من حفظه كاملاً وفقاً لرسالتها أو فرضه فتتعدّى تفويض وكالتها. وما يقلقني هو بقاء لبنان أسير دوامة العنف يعرف أبناؤه  مطامع إسرائيل ولا يعرفون أنفسهم كما نادى بالمعرفة سقراط، ولا يتعارفون على إخوتهم وأقرانهم اللبنانيين. وفي بلد مشرذم، حيث كل إنسان يستعمر الآخر والمسيّرة تستعمر الجميع، عبثاً برأيي نستجرّ الخلاص من الخارج ما لم نعالج فجوات الداخل وأخطاء المكابرة والإنكار والإستعلاء والإستيلاء والإستعطاء والعمى التحكّمي والطرش الإنتقائي، وما لم نحسن التصرّف بأن لبنان كيان أصيل وليس فرعاً لكيان أو متفرّعاً من كيانات. ولا أدلّ على حالتنا سوى قول الإمام الشافعي، رحمه الله:
" نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير زنبٍ
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا ".

 

ختاماً، شاهدت مع كثيرين افتتاح المتحف المصري الكبير مساء السبت تاريخ 1 تشرين الثاني 2025 والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي  يخاطب بكلمات عميقة العالم عن الحضارة والإنسانية و"عبقرية الإنسان المصري". وبرأيي اصطفّت مصر في المقام الأول  للدول المؤتمنة على رسائل الحضارة.  فتساءلت بكثير من المرارة أين رسالة لبنان ؟ هل أحرقت أطرافها حرب غزة أم أن الذئب اللبناني قد افترسها؟ قد تكون زيارة البابا لاوون الرابع عشر مشفوعة بالإيمان مناسبة لإعادة الإعتبار إلى تلك الرسالة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق