نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بيانٌ فنّيٌ متحرِّرٌ من كلّ قاعدةٍ آمرة - المصدر 24, اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025 01:25 مساءً
المصدر 24 - العربي الحميدي - المغرب
يشكّل كوني فنّانًا فعلًا معرفيًا وجماليًا قبل أن يكون خيارًا موجَّهًا نحو الدهشة أو السؤال. هو إقامةٌ داخل مساحة روحية تبحث عن توازنها الخاص وخلاصها الرمزي. وفي هذا السياق، يمنحني العيش في عزلةٍ اختياريةٍ داخل الورشة إمكانًا أوسع للإصغاء إلى ما تقترحه اللوحة من احتمالات، قبل أن أحدّد أنا ما أريده منها. غير أنّ العمل داخل الورشة لا يقوم دائمًا على السكينة؛ فالعلاقة مع الفضاء، ومع أدواته، ومع الضوء في حضوره وغيابه، تتخذ شكل مواجهةٍ دائمة يُعاد فيها تشكيل المعنى وفتح مسارات جديدة في البحث.
ورغم اشتغالي داخل فضاءٍ يطلّ على "اللامكان"، فإنّ كلّ لوحة جديدة تتحوّل إلى اختبارٍ بيني وبين المجال الذي يحتوي تجربتي. يُقضى وقتٌ طويل في ترتيب العناصر وملاحقة الضوء الملائم، وكأنّ شروط الخلق تُعاد صياغتها عند كلّ بداية. هذا التوتّر ليس استثناءً؛ إذ كان فان غوغ نفسه يعمل في حوارٍ صامت مع ورشته. غير أنّ الفنان المعاصر، بخلاف ذلك، يواجه تحدّي بناء العلاقة مع اللوحة دون وسيط، مكتفيًا بالشراكة التي تربطه بالمكان.
يتأسّس هذا التوتّر على تمفصل منظورين.
الأوّل ذاتي، يقوم على حساسيّة عالية تجاه اللون وملمس القماش، واستجابة حدسيّة للأشكال التجريدية واحتمالاتها؛ والثاني تمليه الورشة بوصفها فضاءً تشكيلياً صارمًا يفرض إيقاعه الخاص عبر الضوء والظلّ وتموضع الأشياء. ويشكّل هذا الاشتباك بين الانفعال الجمالي والانضباط التقني امتدادًا لمسارٍ بحثي طويل ساعدني على بناء علاقة أكثر اتزانًا مع ذاتي ومع مجالي العملي.
بدأت تجربتي من داخل تقاليد الفن الواقعي، قبل أن أنتقل إلى التجريد ثم إلى التجارب الطليعية الحديثة، مستندًا إلى بحثٍ معمّق في الفن الروسي الذي يمنح للمهارة بُعدًا تأسيسيًا. كما انفتحتُ على الفن الديني الروسي والروماني، وعلى تراث النهضة الغربية، ثم على المسارات الروحية في فنّ أوروبا الشرقية، خصوصًا لدى مارك شاغال. ومن لوكارافاج، وجورج فريدريك واتس، استلهمتُ درس الانسياب اللوني والرمزية دون الوقوع في فخّ المحاكاة.
تكمن رهان تجربتي اليوم في محاولة تركيب عناصر تبدو متباعدة.
جرأة اللون المعاصر مع صرامة البناء الكلاسيكي، وروحانية المدارس الشرقية مع الابتكار الذي تتيحه التكوينات الحديثة، مع إضافة طبقة سريالية تمنح الصورة بُعدها الرمزي، وتضعها في سياقات غير مألوفة تستدرج المتلقي إلى داخل العالم المتخيَّل للعمل.
ورغم أنّ مسار الفنان غالبًا ما يكون مسارًا منفردًا، يظلّ سؤال الابتكار قائمًا. هل يمكن مواصلة بناء العوالم التركيبية ذاتيًا؟ أرى أنّ الحفر في الذات، بما يحمله من توتّرات بين الضوء والظل، وبين الضجيج والصمت، هو ما يمنح العمل قيمته الجمالية والمعرفية. وفي كلّ مرة أعاين فيها حصيلة هذا الحوار الشاق بيني وبين الورشة، أزداد يقينًا بأنّ العملية، بكلّ ما فيها من مشقّة وتوتّر، تستحق أن تُعاش وتُطوَّر باعتبارها جزءًا من هوية الفنان ومساره.














0 تعليق