نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أمير الحرب: هل استفاد نتنياهو ماليًا من حرب غزة؟ - المصدر 24, اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 11:45 صباحاً
المصدر 24 - تقوم هذه الدراسة الاستقصائية التي أجراها مركز الحبتور للدراسات على أسس علمية ومنهجية مُحكمة بعيداً عن الحسابات السياسية والجدل الإعلامي الدائر حول الذمة المالية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لذا اعتمد الباحثون القائمون على الدراسة على التحليل الموضوعي لثروة نتنياهو وأصوله بوصفها مدخلًا لفهم ديناميات توظيف السلطة السياسية لديه لتحقيق مكاسب مالية غير قانونية بدعم من دائرة ضيقة من المسؤولين المستفيدين بصورة مباشرة من هذه المخالفات، حيث أعاد القائمون على الدراسة حساب إجمالي ما يتلقاه نتنياهو من تعويضات رسمية، تشمل: (الأجر، المزايا، الحوافز) والتي حصل عليها في الفترة ما بين 2009 و2025، ثم قام الباحثون باحتساب القيمة التراكمية لهذه التعويضات وفق متوسط معدلات الفائدة التي يقرّها البنك المركزي الإسرائيلي، لتحديد الحد الأقصى للثروة التي يمكن أن يحققها استنادا لمداخيله الحكومية، وبعد تثبيت هذا الحد المرجعي، قارن التحقيق بين الدخل المعلن والموجودات التي قام الباحثون برصدها، بما في ذلك العقارات والأرباح الرأسمالية والمزايا الممولة من المال العام، وأظهرت النتائج وجود فجوة هيكلية واسعة بين الدخل الرسمي والثروة الفعلية، إلى جانب مؤشرات على ممارسات مالية متعمدة لتقليل الشفافية، من خلال العديد من أدوات التحايل، مثل: حساب مصرفي في جزيرة جيرسي (Jersey)، وعمليات شراء يقوم بها أبناؤه لعقارات في الخارج باستخدام اسم مستعار في أوكسفوردشير (Oxfordshire)، أو عبر شركة محدودة المسؤولية (LLC) مرتبطة برهن عقاري في نيوهافن (New Haven)، ومن هنا لا يهدف هذا القسم فقط إلى إدانة نتنياهو، بل يمتد بالتحليل نحو تأسيس منهجية علمية كمية تبيّن أن الخلل بين الدخل والثروة لدى نتنياهو لا يحدث عرضًا بل يعبر عن نمط متكرر، وهو ما يدفع نحو مزيد من البحث والاستقصاء المعمق حول الآليات التي تفسّر مصدر هذا التوسع المالي غير المبرّر.
ينتقل التحقيق بعد ذلك إلى تفكيك تلك الآليات من خلال دراسة علمية وموضوعية للقضايا الجنائية التي ارتبطت بنتنياهو، ليس عبر إعادة سردها، بل عبر تحليل النمط المتكرر الذي تكشف عنه هذه القضايا ويعبر عن رابط مشترك بينها، ولتحقيق هذا الهدف تناولت الدراسة الاستقصائية بالفحص والتحليل القضايا 1000 و2000 و4000 إضافة إلى شبكة الغواصات في القضية 3000، باعتبارها اختبارات عملية لآليات النفوذ، وجرى تحليلها وفق أربعة أبعاد مترابطة، تشمل:
• أولًا، بنية الوساطة التي تجمع الدائرة العائلية والمستشارين الدائمين والوسطاء الخارجيين
• ثانيًا، نمط التبادل غير المالي حيث يُستبدل النفوذ السياسي أو التنظيمي بمكاسب رمزية كالتغطية الإعلامية الإيجابية والحماية المؤسسية وغيرها.
• ثالثًا، آليات الإخفاء والتكامل المالي عبر الأسماء المستعارة، والشركات الوسيطة، والحسابات الخارجية.
• وأخيرًا، بيئة تضارب المصالح التي تُنتج قرارات قانونية في الشكل لكنها تعتمد فعليًا على الولاء الشخصي داخل شبكة المصالح تلك.
ويُظهر هذا التحليل أن القيمة في منظومة نتنياهو لا تتحرك على شكل أموال مباشرة، بل عبر قرارات وتوقيتات وفرص وصول إلى النفوذ، وأن الوسطاء يقومون بتحويل السلطة العامة إلى امتياز خاص، بينما تُعاد صياغة المنافع تدريجيًا لتبدو لاحقًا قانونية ومألوفة.
بعد رسم هذا النموذج، ينتقل التحقيق إلى تحليل البنية المؤسسية التي تجعل هذه الآليات قابلة للتكرار. حيث تكشف الخريطة التحليلية للأشخاص المرتبطين بعهد نتنياهو (Prosopographic Mapping) عن تمركز القرار في يد شبكة ضيقة من المقربين والمنتفعين على جانب العرض والطلب على حد سواء، فعلى جانب الطلب داخل الدولة نجد سيطرة دائرة ضيقة ممثلة في: مكتب رئيس الوزراء (PMO) ومجلس الأمن القومي (NSC) ووزارة الدفاع (MoD) واللجان الوزارية العليا، بينما في جانب العرض نجد أن هناك هيمنة من قبل دائرة من المقربين والضباط السابقين استنادا لصلاحيات تمنحها لهم مواقعهم في مجالس إدارة الشركات الدفاعية الكبرى مثل رافائيل (Rafael) والصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) وإلبيت سيستمز (Elbit Systems)، وتنتج عن هذه البنية حالة من الاستحواذ المزدوج (Two-Sided Capture)، إذ تتحكم الشبكة نفسها في تحديد ما تطلبه الدولة وتحديد أيضا من القائم بتنفيذ هذه الطلبات، ما يتيح إعادة تدوير المصالح داخل دائرة مغلقة من أصحاب المصالح تقوم على الثقة والمكافآت المتبادلة. يبيّن هذا القسم كيف تتحول التعيينات وتبديلات المناصب وصلاحيات تراخيص التصدير إلى أدوات لإدامة النفوذ على نطاق مؤسسي، مع إمكانية رصد أنماط محددة من الممارسات المثيرة للشك مثل: إلغاء المناقصات، وتزامن العقود مع تغييرات قيادية، والارتفاعات غير المبررة في أسهم الشركات، وإعادة استخدام الوسطاء أنفسهم في صفقات متكررة.
ويصل هذا النموذج إلى أقصى درجات تطرفه، عند رصد كيف يتم تطبيقه في أوقات الأزمات والحروب مثل حرب غزة، تلك الأوقات التي تمنح المسؤول صلاحيات استثنائية ونفوذ غير خاضع للرقابة وتوسع في سلطته التنفيذية، ومن هنا تتبع الدراسة ما تم عقده من صفقات طارئة جرت دون مناقصات، مثل: اتفاق الذخائر مع شركة إلبيت وبرنامج تسليح المدنيين، إلى جانب المشتريات الإستراتيجية مثل: كورفيتات ريشيف (Reshef) والمركبات الأمريكية JLTVs والمقاتلات F-15IA. وتظهر البيانات أن حالة الطوارئ ضاعفت قنوات النفوذ السابقة، فأصبحت السلطة التقديرية تتمركز في أيدي محدودة، والوساطة غير الرسمية تتوسع، وآليات التدقيق تتراجع، كما يشير خطاب نتنياهو المسمّى بـ “نموذج اسبرطة (Sparta Model)”، الداعي إلى “إزالة العقبات البيروقراطية وتسريع التسلّح”، إلى تحوّلٍ عقائدي يقدّم السرعة على الشفافية ويحوّل الاستثناء إلى قاعدة مؤسسية، وفيما يلي استعراض مُلخص لكل من جوانب هذه المنظومة.
عائلة نتنياهو: مسارات تراكم الثروة والأصول
تُقدَّر الثروة الشخصية المُعلنة لبنيامين نتنياهو بما يتراوح بين 50 و55 مليون شيكل إسرائيلي، وهو رقم يفوق بأضعاف دخله الرسمي المعلن من الدولة. فخلال فترات تولّيه رئاسة الوزراء بين 2009 و2021 ثم مجددًا منذ 2022، بلغ مجموع رواتبه ومخصصاته الرسمية نحو 11 إلى 12 مليون شيكل فقط. حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا من حيث الادخار والعائد الاستثماري، لا يمكن تفسير سوى ربع هذه الثروة تقريبًا بالاعتماد على الدخل الحكومي وحده، مما يثير تساؤلات أساسية حول مصادر الزيادة المتبقية وطبيعتها.
تُظهر مراجعة مسار تراكم الثروة أن الجزء الأكبر من أموال نتنياهو تكوّن خلال الفترات التي كان فيها خارج المنصب العام، بينما تباطأ النمو المالي أو استقر خلال سنوات تولّيه السلطة. فبعد خروجه من رئاسة الحكومة عام 1999، استثمر مكانته السياسية وشبكة علاقاته في أنشطة خاصة ذات عائد مرتفع غير مبرر استنادا لطبيعة هذه الأنشطة وسعر السوق والمرجعية المالية الخاصة بها، حيث شملت هذه الأنشطة إلقاء محاضرات مدفوعة الأجر، وتقديم استشارات، والمشاركة في مشاريع خاصة، والنتيجة غير المنطقية استنادا لما سبق أن حقق نتنياهو في الفترة بين 1999 و2002، من هذه الأنشطة ملايين الدولارات، مكّنته من شراء منزل فاخر في قيسارية عام 2002، وفتح حسابات مصرفية خارجية. ومع مطلع العقد الأول من الألفية، كانت ثروته قد بلغت عشرات الملايين من الشيكلات، وتشير تقديرات مالية إلى أنه بحلول 2013 كان قد جمع معظم ثروته، التي وصلت آنذاك إلى نحو 40 مليون شيكل.
في منتصف العقد الأول من الألفية، تلقى نتنياهو دفعة مالية جديدة من استثمارات ناجحة، أبرزها شراكته مع ابن عمه ناثان ميليكوفسكي في شركة أمريكية لإنتاج الكوك الصناعي (Seadrift Coke). فقد اشترى أسهمًا في عام 2007 وباعها في عام 2010 بأكثر من سبعة أضعاف سعر شرائها، محققًا أرباحًا تقارب 4.3 مليون دولار. وبنهاية العقد، كانت ثروته قد قاربت 50 مليون شيكل. وعند عودته إلى رئاسة الوزراء عام 2009، باع هذه الحصص التزامًا بالقواعد التي تحظر على المسؤولين ممارسة أنشطة تجارية أثناء توليهم المنصب.
مع نهاية العقد الثاني من الألفية، بدأت الأعباء القانونية تُقلّص وضعه المالي بسبب تكاليف الدفاع عن نفسه في قضايا الفساد التي واجهها، حيث استعان بفريق كبير من المحامين مرتفعي الأجر، ولجأ إلى طلب مساعدات مالية من حلفائه الأثرياء لتغطية النفقات، فعلى سبيل المثال في عام 2019، تقدم رسميًا بطلب إلى لجنة حكومية للسماح له بقبول مليوني دولار من ابن عمه ميليكوفسكي لسداد أتعاب المحامين، كما حاول الحصول على تمويل إضافي من رجل الأعمال سبنسر باتريتش (Spencer Partrich)، رفضت اللجنة هذه الهبات لأسباب أخلاقية، ما اضطره إلى تحمل النفقات بنفسه. ولتخفيف الضغط المالي، أقر الكنيست في عام 2020 تعديلًا يمنحه إعفاءً ضريبيًا بأثر رجعي يعادل نحو 270 ألف دولار، ما أعاد بعض التوازن إلى وضعه المالي. ومع ذلك، استمر الاستنزاف القانوني حتى عام 2025، لتظل ثروته محصورة بين 50 و55 مليون شيكل.
وفي هذا الصدد تكشف مراجعة أصول عائلة نتنياهو عن ممارسات مالية غير قانونية تهدف إلى تقليل الرقابة والشفافية، فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من عدم امتلاك زوجته سارة نتنياهو ثروة مستقلة، إلا إن نمط المعيشة الذي يتسم بالبذخ والذي تحياه عائلته يظهر نقيض ذلك، حيث يبدو بصورة واضحة أنه مدعوما بهدايا فاخرة مجهولة المصدر، ونمط حياة باهظ التكلفة مدفوع من المال العام، أما الأبناء، فقد استخدموا آليات أكثر تعقيدًا لإدارة ممتلكاتهم الشخصية. ففي عام 2022، على سبيل المثال، اشترى الابن الأصغر أفنير نتنياهو شقة فاخرة في أوكسفورد (Oxford) بقيمة تقارب 502 ألف جنيه إسترليني (نحو 1.97مليون شيكل)، بعد أن غيّر اسمه القانوني إلى آفي أفنير سيغال (Avi Avner Segal)، بلغت قيمة الصفقة حدًّا أدنى يُعفيها من الإفصاح الإلزامي عن الأصول الخارجية، ما أبقى العملية خارج السجلات الرسمية حتى كشفتها وسائل الإعلام لاحقًا.
وفي عام 2025، اشترى الابن الأكبر يائير نتنياهو شقة في نيوهافن (New Haven) بولاية كونيتيكت الأمريكية مقابل 325 ألف دولار من خلال شركة واجهة تُدعى Heritage Y.N. Israel LLC، موّلت جزءًا كبيرًا من الصفقة عبر قرض مصرفي أمريكي قدره 275 ألف دولار. أتاح هذا الترتيب تنفيذ العملية خارج النظام المالي الإسرائيلي، ما وفر مزايا ضريبية وإجرائية، لكنه أيضًا أخفى هوية المالك الفعلية للعقار عن السلطات الإسرائيلية.
أما نتنياهو نفسه، فقد احتفظ بين 1999 و2003 بحساب مصرفي في جزيرة جيرسي (Jersey)، وهي منطقة تُعرف بانخفاض ضرائبها ومرونتها المصرفية، وقد تزامن ذلك مع تولّيه وزارة المالية عام 2003، وهي فترة يُفترض فيها الالتزام الكامل بالشفافية المالية. أُعلن لاحقًا أن الحساب أُغلق قبل عودته إلى الحكومة، غير أن تفاصيل الرصيد والمستفيدين لم تُكشف، ما أثار تساؤلات حول دوافع الاحتفاظ بأموال في ملاذ ضريبي خارجي في وقت كان يشارك فيه في صياغة السياسة الاقتصادية الإسرائيلية.
في المجمل، تُظهر البنية المالية لعائلة نتنياهو خللًا واضحًا بين الدخل المُعلن والثروة المتراكمة، إذ تعتمد الأسرة على هياكل مالية غير تقليدية تشمل الشركات الصورية، والأسماء المستعارة، والحسابات الخارجية، لتقليل مستوى الشفافية وإخفاء مسارات الأموال. وتشير هذه الأنماط إلى تدفق أموال ضخمة عبر قنوات غير رسمية، تستدعي تحقيقًا أعمق في مصادرها، سواء أتت من صفقات ذات شبهة فساد أو من دعم مالي مباشر أو غير مباشر من أثرياء مرتبطين بالسلطة السياسية.
قضايا الفساد والاتهامات
واجه بنيامين نتنياهو خلال مسيرته السياسية أكثر القضايا القانونية تعقيدًا في تاريخ إسرائيل الحديث، إذ خضع لسلسلة من التحقيقات والاتهامات التي شكّلت محورًا دائمًا في مسيرته السياسية والقضائية. تتركز أبرز القضايا المرفوعة ضده في ثلاث ملفات جنائية رئيسة: القضية 1000 والقضية 2000 والقضية 4000، وتشمل اتهامات بـ الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. ورغم إنكاره الكامل لجميع التهم وادعائه أن ما يتعرض له "حملة اضطهاد سياسية"، فقد قدّمت النيابة العامة الإسرائيلية لوائح اتهام مدعومة بتحقيقات موسعة أجرتها الشرطة، تضمنت وثائق رسمية وشهادات مباشرة من مساعدين سابقين تحولوا إلى شاهد ملك. كما برزت إلى جانب القضايا الثلاث السابقة قضية رابعة عُرفت باسم القضية 3000 أو "قضية الغواصات"، لم يُدان فيها نتنياهو، لكنها كشفت عن شبكة فساد داخل منظومة صفقات التسلّح البحري تضم شخصيات من دائرته المقربة.
تتمحور القضية 1000، المعروفة باسم "قضية الهدايا"، حول تلقي نتنياهو وأفراد أسرته هدايا فاخرة ومتكررة من رجلي الأعمال أرنون ميلتشان (Arnon Milchan)، المنتج الإسرائيلي المقيم في هوليوود، وجيمس باكر (James Packer)، الملياردير الأسترالي. شملت الهدايا سيجارًا فاخرًا، وزجاجات شمبانيا، ومجوهرات بلغت قيمتها مئات آلاف الشيكلات، وكانت تصل إلى مقر إقامة نتنياهو على نحو دوري على مدار سنوات، وتؤكد النيابة أن تلك الهدايا لم تكن مجرد مجاملات اجتماعية، بل نمطًا تبادليًا مستمرًا، استخدم فيه نتنياهو نفوذه لتسهيل تجديد تأشيرات إقامة ميلتشان في الولايات المتحدة والنظر في إعفاءات ضريبية لمصالحه التجارية داخل إسرائيل. ورغم غياب اتفاق مكتوب، فإن تسلسل الوقائع يعكس علاقة مقايضة غير معلنة بين السلطة والمصلحة الخاصة، وهو ما يُعد، في حال إثباته، إساءة استخدام للمنصب العام وخيانة للأمانة، وقدّمت هذه القضية مثالًا واضحًا على تلاشي الحدود بين المنفعة الشخصية والمسؤولية العامة في دائرة نتنياهو وعائلته.
أما القضية 2000، فتتناول محاولة نتنياهو عقد صفقة غير قانونية مع أرنون موزيس (Arnon Mozes)، ناشر صحيفة يديعوت أحرونوت، إحدى كبريات الصحف الإسرائيلية.، حيث كشفت تسجيلات صوتية موثقة عن محادثات مباشرة بين نتنياهو وموزيس ناقشا فيها خطة لتقليص توزيع صحيفة "إسرائيل هيوم"، الموالية لنتنياهو، مقابل تغطية إعلامية إيجابية في يديعوت أحرونوت، ويعني ذلك أن رئيس الوزراء سعى إلى تبادل امتياز تنظيمي بمقابل إعلامي يخدم مصالحه السياسية، وعلى الرغم من أن الاتفاق لم يُنفَّذ فعليًا، فإن مجرد التفاوض عليه يُعد انتهاكًا لمبدأ النزاهة العامة واستخدامًا للسلطة لأغراض شخصية. وقدّمت هذه القضية صورة مبكرة لنمط نتنياهو في استخدام النفوذ السياسي للتأثير على الإعلام باعتباره أداة مباشرة لتأمين مكاسب انتخابية، وهو النمط الذي سيظهر لاحقًا في قضايا أكثر تعقيدًا.
تُعد القضية 4000، أو قضية بيزك–والا (Bezeq–Walla)، الأخطر بين جميع الملفات، إذ تتضمن شبهة رشوة مباشرة بين نتنياهو ورجل الأعمال شاؤول إلوفيتش (Shaul Elovitch)، مالك شركة الاتصالات العملاقة بيزك وموقع الأخبار "والا". وبحسب لائحة الاتهام، استخدم نتنياهو، الذي كان يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الاتصالات، سلطته لمنح بيزك تسهيلات تنظيمية كبيرة سمحت لها بصفقات اندماج قدرت أرباحها بنحو 1.8 مليار شيكل (أي ما يعادل 500 مليون دولار). في المقابل، حصل نتنياهو وعائلته على تغطية إعلامية موجهة ومتفوقة في موقع "والا"، حيث أشارت شهادات مستشارين سابقين إلى أن مكتب رئيس الوزراء كان يتدخل شخصيًا في صياغة الأخبار والمقابلات وحذف المواد السلبية، واعتبرت النيابة هذا السلوك مقايضة تنظيمية مقابل دعاية سياسية، أي تحويل القرارات الحكومية إلى مكاسب إعلامية شخصية، وهو ما يُعد سابقة في حجمها وتأثيرها داخل النظام السياسي الإسرائيلي. ويواجه نتنياهو في هذه القضية تهمة الرشوة، التي تصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات، وقد بدأ في أواخر عام 2024 بالإدلاء بشهادته أمام المحكمة نافيًا جميع الاتهامات.
أما القضية 3000، أو قضية الغواصات، فقد كشفت عن شبكة فساد متداخلة في صفقات التسلّح البحري تمت في ظل حكومات نتنياهو المتعاقبة، رغم أنه لم يُتهم فيها مباشرة. تدور القضية حول صفقة لشراء ثلاث غواصات من طراز "دولفين" وأربع كورفيتات "ساعر–6" من شركة ThyssenKrupp الألمانية بقيمة تتجاوز ملياري يورو، إذ أظهرت التحقيقات أن ممثل الشركة في إسرائيل ميكي جانور (Miki Ganor) دفع رشاوي لمسؤولين إسرائيليين لضمان توقيع العقود، وأن شبكة من المقربين من نتنياهو تورطت في تسهيلها، من بينهم محاميه الشخصي ديفيد شمرون (David Shimron)، وقائد البحرية السابق إليعازر ماروم (Eliezer Marom)، ورئيس ديوان رئيس الوزراء الأسبق ديفيد شاران (David Sharan). وازدادت الشكوك حين تبيّن أن نتنياهو وافق منفردًا على بيع ألمانيا غواصات متقدمة إلى مصر، رغم معارضة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ودون اتباع إجراءات شفافة، وقد أعتُبر هذا القرار مؤشرًا على تضارب محتمل في المصالح أو استفادة غير مباشرة من خلال استثمارات أقاربه في الصناعات المرتبطة بالصفقة. كشفت هذه القضية عن منظومة وسطاء ومسؤولين ومحامين استغلوا السرية المرتبطة بصفقات الأمن القومي لتوليد مكاسب مالية شخصية، وأسهمت في تعزيز الانطباع بوجود دائرة فساد حول مركز القرار السياسي، حتى وإن لم يُدان نتنياهو قضائيًا.
تُظهر هذه القضايا مجتمعة نمطًا متكررًا في سلوك نتنياهو السياسي يقوم على استغلال النفوذ العام لتحقيق منافع خاصة أو فئوية، سواء عبر قبول هدايا، أو مقايضة امتيازات تنظيمية بتغطية إعلامية، أو تمكين مقربين من عقود حكومية. وقدّمت المحاكم خلال المحاكمات الجارية تسجيلات وشهادات ومراسلات رسمية أظهرت اتساع نطاق التجاوزات داخل الدائرة المحيطة برئيس الوزراء. ورغم تمسك نتنياهو بخط دفاعه القائم على إنكار التهم وادعاء الدوافع السياسية، فإن حجم الأدلة وطبيعة الملفات المطروحة يجعلان من هذه القضايا سابقة قضائية وسياسية في تاريخ إسرائيل، بما يجعل هذه القضايا مدخلًا ضروريًا لفهم آليات منظومته الداخلية وطريقة عملها داخل مفاصل الدولة الحساسة، ولا سيما في القطاعات الأمنية والدفاعية التي تمثل مركز ثقله السياسي والاقتصادي.
دائرة نتنياهو المغلقة: تحليل لأنماط تبادل المصالح داخل السلطة
ترتكز قوة بنيامين نتنياهو بدرجة كبيرة في قدرته على توطيد الولاء السياسي داخل مؤسسات الدولة من خلال تعيين مقرّبين منه في المواقع الحساسة، وبناء شبكات متداخلة تجمع بين دوائر الحكم وقطاع الصناعات الدفاعية. وعلى مدى سنوات حكمه، حرص نتنياهو على إحكام السيطرة داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية عبر تمكين حلفاء موثوقين في مواقع القرار، مكوِّنًا بذلك ما يمكن وصفه بـ «محرك الطلب» (Demand Engine) الذي يحدد طبيعة المشتريات الدفاعية، والجهات المنفذة للعقود، وآليات اتخاذ القرار في المنظومة العسكرية. وفي المقابل، انجذب العديد من الضباط المتقاعدين والبيروقراطيين ورجال الأعمال إلى دائرة ضيقة تتقاطع مصالحها مع مصالح نتنياهو، لتتشكل شبكة نفوذ شخصية تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والأمنية والاقتصادية في آنٍ واحد.
في ولايته الأخيرة التي بدأت أواخر عام 2022 وشهدت حرب غزة عام 2023، استخدم نتنياهو صلاحياته التنفيذية واتفاقاته الائتلافية لتعيين شخصيات تدين له بالولاء في مناصب استراتيجية عليا. فقد عيّن تساحي هنغبي (Tzachi Hanegbi)، أحد أبرز وجوه حزب الليكود وأكثرهم إخلاصًا له، رئيسًا لمجلس الأمن القومي، مانحًا بذلك حليفًا سياسيًا نفوذًا مباشرًا في صياغة السياسات الأمنية العليا. كما استدعى رون ديرمر (Ron Dermer)، سفيره السابق في واشنطن وأحد أقرب مستشاريه، ليشغل منصب وزير الشؤون الاستراتيجية، حيث عمل فعليًا كمبعوث خاص لرئيس الوزراء في الملفات الأمنية والدبلوماسية. وامتد تأثير نتنياهو إلى وزارة الدفاع نفسها، حين تولى يسرائيل كاتس (Israel Katz)، وهو سياسي من الليكود يفتقر إلى خلفية عسكرية لكنه يتمتع بولاء مطلق، منصب وزير الدفاع بالإنابة لفترة مؤقتة، في خطوة عكست تفضيله للولاء على الكفاءة، كما شملت دائرة الموالين شخصيات بارزة مثل ياريڤ ليفين (Yariv Levin) في وزارة العدل وبتسلئيل سموتريتش (Bezalel Smotrich) في وزارة المالية، وكلاهما ركيزتان أساسيتان في تحالفه الحكومي، ومن خلال تمركز هذه المناصب الحساسة في أيدي المقربين، ضَمِن نتنياهو أن القرارات المتعلقة بالموازنات الدفاعية والمشتريات والخطاب الرسمي تصدر من دائرة سياسية يجمعها تفاهم مشترك حول المصالح الشخصية دون العامة، وفي أوقات الحرب، مكّن هذا الترتيب تلك الدائرة من اتخاذ قرارات مصيرية بسرعة وبأدنى قدر من الرقابة والاعتراض المؤسسي.
يتسق هذا النمط مع ممارسات راسخة في حكومات نتنياهو السابقة، حيث استخدم شركاؤه الائتلافيون نفوذهم لتوسيع المحسوبية داخل المؤسسات الدفاعية بموافقته الضمنية، ففي عام 2016، عندما تولى أفيغدور ليبرمان (Avigdor Lieberman) وزارة الدفاع، عيّن اثنين من المقربين لحزبه في مواقع قيادية بشركات دفاعية مملوكة للدولة: يائير شامير (Yair Shamir) رئيسًا لمجلس إدارة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI)، ويتسحاق أهارونوفيتش (Yitzhak Aharonovitch) رئيسًا لمجلس إدارة الصناعات العسكرية الإسرائيلية (IMI). ورغم أن هذه التعيينات كانت تحت نفوذ ليبرمان المباشر، فإنها تمت خلال فترة حكم نتنياهو، وأكدت أن المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي لم يكن بمنأى عن التأثيرات السياسية. وفي مرحلة لاحقة، عيّن نتنياهو أحد أقرب حلفائه، هاريل لوكر (Harel Locker)، رئيسًا لمجلس إدارة الصناعات الجوية الإسرائيلية، معززًا بذلك الارتباط المؤسسي بين مكتب رئيس الوزراء وقيادة الصناعات الدفاعية.
تمدد نفوذ نتنياهو كذلك من خلال مستشاريه المقربين وأفراد أسرته الذين لعبوا أدوارًا مؤثرة خارج الإطار الرسمي، فقد مارست سارة نتنياهو، رغم غياب أي صفة رسمية، تأثيرًا مباشرًا على قرارات التعيين داخل الدوائر المحيطة بزوجها، كما واجهت بدورها اتهامات بإساءة استخدام الأموال العامة. ويجسد ابن عمه ومحاميه الشخصي ديفيد شمرون (David Shimron) التداخل بين العلاقات العائلية والمصالح العامة، إذ مثّل الشركة الألمانية المنتجة للغواصات في القضية 3000 دون الإفصاح عن تضارب المصالح، وهو ما كشف الامتداد الشخصي لشبكة نتنياهو داخل الصفقات الدفاعية للحكومة. كما أدلى عدد من مساعديه السابقين بشهادات ضده بعد تحولهم إلى شهود، أبرزهم شلومو فيلبر (Shlomo Filber) المدير العام السابق لوزارة الاتصالات، ونير حيفتس (Nir Hefetz) المتحدث الرسمي السابق باسمه، حيث أكدا أنه كان يوجّههم لتنفيذ ترتيبات إعلامية وتنظيمية تخدم مصالحه الشخصية، وقد أدى تورط العديد من المقربين السابقين في قضايا فساد أو شهاداتهم ضده إلى تكوين صورة لبناء داخلي قائم على تطبيع السلوكيات غير القانونية داخل دائرة الحكم.
تُظهر هذه البنّية المتشابكة أن شبكة الموالين المحيطة بنتنياهو أصبحت جزءًا عضويًا من منظومة الأمن والدفاع الإسرائيلية، فغالبية أفرادها من ذوي الخلفيات العسكرية والاستخباراتية المشتركة، ويجمعهم بِنَتنياهو وديرمر وآخرين تاريخ من الخدمة في وحدات النخبة العسكرية، ما أسس لروابط شخصية متينة مبنية على الثقة المتبادلة والسرية التنظيمية، ويؤدي هذا التنظيم المغلق إلى إضعاف الرقابة المؤسسية، إذ تُتخذ القرارات الحساسة – سواء في صفقات التسليح أو المبادرات الدبلوماسية والأمنية – ضمن نطاق ضيق من المستشارين بعيدًا عن آليات التدقيق البيروقراطية، ومع ازدياد تداخل الولاءات والمصالح السياسية والشخصية مع المواقع الدفاعية، تتركز عملية صنع القرار في أيدي مجموعة محدودة قادرة على توجيه الموازنات والموافقات بما يتماشى مع أجندة رئيس الوزراء، ويُعد هذا الإطار البشري الركيزة التنفيذية التي مكّنت من تكرار أنماط المنفعة الذاتية (Self-Dealing) التي كشفتها قضايا الفساد السابقة، إذ توفر الهيكل الإداري الفعلي الذي يجعل مثل هذه الممارسات ممكنة ومستدامة داخل أجهزة الدولة.
المجمّع الصناعي العسكري: بين التربح الشخصي والفخر الوطني
يُمثل المجمّع الصناعي العسكري الإسرائيلي منظومة مترابطة تجمع بين أجهزة الدولة وشركاتها الدفاعية العامة والخاصة، وتعمل تحت إشراف مباشر من الحكومة ومكتب رئيس الوزراء، ويُشكّل هذا المجمّع محورًا أساسيًا في فهم العلاقة بين السياسة والاقتصاد والأمن في عهد بنيامين نتنياهو، إذ تَتجسد فيه ثنائية القرار والإنتاج: حيث يسيطر المقرّبون منه على جانب الطلب الحكومي، بينما يتولى القطاع الصناعي جانب العرض والإمداد، بما يخلق حلقة مغلقة من النفوذ والتأثير، ويُظهر تحليل هيكل هذه المنظومة خلال الفترة من 2015 إلى 2025 أن توسّع الصناعة الدفاعية تَرافق مع تضخّم في فرص تحقيق الأرباح، سواء القانونية منها أو غير المشروعة.
يتكوّن الهيكل الدفاعي من محورين متكاملين: المحور الحكومي والمحور الصناعي. فمن جهة الحكومة، تُعد وزارة الدفاع (Ministry of Defense – MoD) الجهة المركزية التي تدير عمليات الشراء والإمداد، وتُمارس عبر مديرية المشتريات صلاحياتها في تأمين احتياجات قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF)، بينما تتولى مديرية التعاون الدولي في مجال الدفاع (SIBAT) الإشراف على تصدير السلاح والتنسيق مع الشركات الأجنبية. وتحدّد هيئة الأركان العامة المتطلبات العسكرية التي تتحوّل لاحقًا إلى عقود تصنيع وتوريد، وهو ما يجعل قرارات الجيش نقطة الانطلاق الفعلية في الدورة الاقتصادية للدفاع.
أما على الجانب الصناعي، فتبرز ثلاث شركات كبرى تشكل العمود الفقري للمجمّع الدفاعي، وتشمل ما يلي:
• شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (Israel Aerospace Industries – IAI)، وهي الشركة التي تأتي في الصدارة بوصفها أكبر شركة دفاعية مملوكة للدولة، متخصصة في إنتاج الطائرات، والطائرات المسيّرة، والصواريخ، وأنظمة الرادار. وتخضع الشركة لإشراف حكومي مباشر، إذ يُعيَّن مجلس إدارتها بقرارات وزارية، ما يجعلها أداة تنفيذية تحت التأثير السياسي المباشر.
• شركة رافائيل للأنظمة الدفاعية المتقدمة (Rafael Advanced Defense Systems)، وهي أيضًا مملوكة للحكومة ومتخصصة في أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ، أبرزها القبة الحديدية (Iron Dome)، وتحافظ على ارتباط وثيق بمراكز البحث العسكري.
• شركة إلبيت سيستمز (Elbit Systems) وهي أكبر كيان دفاعي في القطاع الخاص، تنتج إلكترونيات الطيران والطائرات المسيّرة والمعدات البرية، وقد توسّعت بشكل ملحوظ بعد استحواذها عام 2018 على شركة IMI Systems ضمن خطة الخصخصة التي أقرّتها حكومة نتنياهو.
وإلى جانب هذه الشركات، تنشط مجموعة "SK Group" برئاسة رجل الأعمال سامي كتساف (Sammy Katsav)، وتضم شركات أبرزها (IWI) Israel Weapon Industries المنتجة لبندقية تافور (Tavor)، إضافة إلى شركات في بناء السفن والبصريات، كما ظهرت عشرات الشركات الناشئة في تكنولوجيا الدفاع أسسها ضباط سابقون من وحدات الاستخبارات.
يمثل نمط إدارة هذا القطاع تطبيقا واضحا ومباشرا لظاهرة «الباب الدوّار» (Revolving Door)، إذ ينتقل كبار الضباط والمسؤولين الحكوميين فور تقاعدهم إلى مناصب تنفيذية في الشركات الدفاعية، فمثلًا، تولّى نمرود شيفر (Nimrod Shefer)، وهو لواء احتياط ورئيس سابق لشعبة التخطيط في الجيش، إدارة (IAI) في أواخر العقد الثاني من الألفية، تلاه بوعز ليفي (Boaz Levy) من داخل الشركة نفسها. كما أدار يوآف هر-إيفن (Yoav Har-Even)، قائد سابق في شعبة العمليات، شركة رافائيل حتى عام 2024. ويُسوّق هذا النمط باعتباره وسيلة لضمان التوافق بين الإنتاج الصناعي واحتياجات المؤسسة العسكرية، لكنه في الواقع يخلق تضاربًا بنيويًا في المصالح ويمحو الحدود بين الوظيفة العامة والربح الخاص، وتُعد الفترات القصيرة التي تفرضها القوانين قبل انتقال المسؤولين إلى القطاع الصناعي شكلية إلى حدٍّ كبير، ما يتيح لهم استخدام شبكاتهم الشخصية داخل الجيش لتأمين العقود محليًا ودوليًا. ويستفيد هؤلاء من مكانتهم السابقة بوصفهم “خبراء وطنيين” لتسويق منتجات شركاتهم وكسب الثقة المؤسسية.
يمتد التأثير إلى رأس المال الخاص، حيث يلعب عدد من رجال الأعمال دورًا محوريًا في تمويل وتوجيه سياسات الدفاع. يأتي في مقدمتهم ميخائيل فيدرمان (Michael Federmann)، رئيس مجلس إدارة Elbit Systems وعضو سابق في وحدة ساييرت متكال (Sayeret Matkal) التي خدم فيها أيضًا نتنياهو، ما يجعل العلاقة بينهما تاريخية وشخصية. ويُعتبر فيدرمان نموذجًا للاندماج الكبير وغير المبرر بين رأس المال والدولة، إذ قاد عمليات دمج وتوسيع في قطاع الدفاع بموافقة رسمية. كما يتمتع سامي كتساف بنفوذ واسع بفضل علاقاته الوثيقة بالجيش والشرطة، ويُعرف بتوظيف ضباط متقاعدين في مواقع إدارية لتعزيز قنواته داخل المؤسسة العسكرية. ويستفيد هؤلاء المستثمرون من الحوافز الحكومية وتراخيص التصدير لتوسيع أرباحهم، بينما تعتمد الحكومة عليهم في التطوير التقني، ما ينتج علاقة اعتماد متبادل يصعب الفصل فيها بين المصلحة الوطنية والمكسب الشخصي.
ترتبط المنظومة الدفاعية أيضًا بشبكة دولية معقّدة، حيث تشكل الولايات المتحدة الركيزة الأساسية من خلال مساعدات سنوية تتراوح بين 3 و4 مليارات دولار تُنفق على شراء الأسلحة الأميركية، مع السماح ببرامج تطوير مشترك مثل تصنيع مكونات لطائرات F-35 ومعدات اتصالات متقدمة. وتشارك شركات أميركية كبرى في شراكات تمويل وتقنية تجعل الصناعتين متداخلتين فعليًا. أما ألمانيا، فتلعب دورًا محوريًا عبر بيع الغواصات من طراز Dolphin ضمن صفقات ThyssenKrupp، التي ارتبطت لاحقًا بفضائح فساد. كما بدأ رأس المال العالمي، من صناديق استثمار مثل SoftBank، في دخول السوق الإسرائيلية بوساطة شخصيات مثل يوسي كوهين (Yossi Cohen)، الرئيس الأسبق لجهاز الموساد، الذي يستخدم علاقاته الأمنية لتوجيه الاستثمارات في التكنولوجيا الدفاعية.
وبالنظر إلى الفترة من 2015 إلى 2025 نجد أنها قد شهدت ازدهارًا غير مسبوقاً في قطاع السلاح الإسرائيلي، حيث تجاوزت قيمة الصادرات الدفاعية السنوية 10 مليارات دولار، وحققت الشركات الكبرى مستويات قياسية من الطلبيات. وساهمت سياسات الخصخصة الجزئية وبرامج المشتريات الحكومية في خلق فرص استثنائية لتحقيق الثروة، إذ استفاد العديد من الضباط والمديرين من عوائد خيارات الأسهم (Stock Options) التي ارتفعت قيمتها خلال فترات الحرب والطلب العسكري. ومع ذلك، رافق هذا الازدهار تفشٍ متكرر للفساد في صفقات كبرى، منها:
في عام 2017، كُشف عن شبكة رشاوي داخل (IAI) شملت أعضاء من مجلس الإدارة، وأُدينت شركة Aeronautics Ltd. بتجربة سلاح على هدف أرميني لإقناع زبون أجنبي من أذربيجان، كما أُدين مسؤول في SIBAT بتلقي رشاوي لمنح تراخيص تصدير. وتُبرز هذه القضايا أن الفساد يسير على مسارات ثابتة: العقود المباشرة دون مناقصات، والعمولات الخفية، وصفقات التصدير الغامضة، واستغلال ثغرات الرقابة.
بحلول عام 2025، أصبح المجمّع الصناعي العسكري الإسرائيلي مصدرًا مزدوجًا للفخر الوطني والثراء الخاص، إذ بات يرمز إلى التقدم التقني والقوة العسكرية من جهة، لكنه من جهة أخرى يمثل بيئة خصبة لتضخيم الثروات الشخصية في غياب الرقابة المؤسسية. وفي قلب هذا المشهد يقف بنيامين نتنياهو، الذي قاد مرحلة التوسع الصناعي وسرّع برامج التسلّح وخصخصة المؤسسات الدفاعية، واضعًا بذلك الأساس لنظام تتقاطع فيه السلطة السياسية مع اقتصاد الحرب، حيث تتحول القرارات الأمنية إلى أدوات للإثراء السياسي والمالي في آنٍ واحد.
دمار في غزة.(أف ب)
مشتريات الأسلحة منذ حرب غزة عام 2023
أدّت حرب غزة في أكتوبر 2023 إلى إحداث تحوّل جذري في مسار المشتريات الدفاعية الإسرائيلية، إذ فرضت ظروف القتال ضغوطًا هائلة على المخزونات العسكرية وخلقت حاجة ملحّة لتعويض النقص بسرعة، ما أتاح للحكومة مساحة غير مسبوقة لتجاوز القيود القانونية والإجرائية. وفي الوقت ذاته، وفّرت الحرب ذريعة سياسية لتوسيع نطاق العقود الدفاعية بمستويين متوازيين: عقود طارئة عاجلة جرى تنفيذها دون مناقصات وتحت بند "الاستثناء الأمني"، وعقود استراتيجية نظامية صُمّمت ضمن خطط إعادة التسلّح طويلة المدى. وتولّت حكومة بنيامين نتنياهو إدارة المسارين بأسلوبين متناقضين ظاهريًا — أحدهما سريع ومرن إلى حدٍّ بالغ، والآخر منظّم ومحكوم بمسار بيروقراطي كامل — لكن كليهما خضع في النهاية لسلطته السياسية.
بدأت الموجة الأولى من المشتريات الطارئة في الساعات التالية لهجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، حين فعّلت وزارة الدفاع صلاحياتها الاستثنائية وأطلقت برنامج تعاقد سريع تجاوز المناقصات العامة. وخلال الفترة بين أكتوبر 2023 وبداية 2024، أنفقت إسرائيل نحو 40 مليار شيكل (ما يعادل أكثر من 10 مليارات دولار) على مشتريات أمنية، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف المتوسط السنوي للإنفاق الدفاعي، وبلغت قيمة الصفقات المنفذة دون مناقصات أكثر من 2.5 مليار شيكل، بذريعة سدّ النقص الفوري في الذخائر والمعدات وسط اختناقات سلاسل الإمداد العالمية، منح وزير الدفاع يوآف غالانت، وهو أحد أركان مجلس الحرب والمقرّب من نتنياهو، تفويضًا واسعًا للمدير العام للوزارة إيال زامير لتجاوز آليات الشراء التنافسية. شمل التفويض ليس فقط المعدات القتالية، بل أيضًا المشتريات اللوجستية والإمدادات الغذائية والمواد الدينية تحت بند "الطوارئ التشغيلية"، ما يعكس أن السرعة أصبحت معيار القرار، ولو على حساب الشفافية.
من أبرز العقود الطارئة اتفاق بقيمة 2.8 مليار شيكل مع شركة إلبيت سيستمز (Elbit Systems) لتوريد ذخائر مدفعية ودبابات ومعدات قتالية متنوعة. ومع ندرة الموردين الدوليين، تحوّلت إسرائيل إلى الإنتاج المحلي، فحصلت إلبيت على أحد أكبر عقودها التاريخية دون أي منافسة مباشرة. أجاز زامير تمديد عمل مصنع ذخيرة قديم بموافقة استثنائية لتلبية الطلب المتزايد، مبرّرًا ذلك بأنه ضرورة عملياتية. ورغم أن زامير لا يُعد من الحلقة الشخصية المحيطة بنتنياهو، إلا أن هذه الصفقة أبرزت كيف يمكن لظروف الطوارئ أن تتحوّل إلى فرصة مالية ضخمة للشركات الدفاعية، خصوصًا تلك التي يقودها رجال أعمال نافذون مثل ميخائيل فيدرمان (Michael Federmann)، رئيس مجلس إدارة إلبيت وأحد أكثر الشخصيات نفوذًا في قطاع السلاح.
وفي المسار الموازي، فعّلت وزارة الأمن القومي بقيادة "إيتمار بن غفير" برنامجًا لتسليح ميليشيات مدنية في المناطق الحدودية. استخدم بن غفير ميزانيات الحرب لتوزيع نحو 40 ألف بندقية وملايين الطلقات ومعدات حماية شخصية على متطوعين، بتكلفة إجمالية بلغت 263 مليون شيكل حتى منتصف 2024. نُفذت هذه المشتريات أيضًا دون مناقصات عامة، تحت ذريعة تعزيز الأمن الداخلي. ورغم أن نتنياهو لم يشارك مباشرة في صياغة العقود، فقد أقرّ التمويل في مجلس الوزراء في إطار تفاهمات ائتلافية لضمان بقاء دعم بن غفير السياسي، وهو ما يعكس استخدامه المتكرر للإنفاق الدفاعي كأداة لتثبيت التحالفات.
بحلول نهاية 2024، ومع تراجع العمليات القتالية في غزة، انتقلت إسرائيل إلى مرحلة المشتريات النظامية التي استندت إلى مراجعات ما بعد الحرب. ففي ديسمبر 2024، وافقت الحكومة على صفقة بقيمة 2.8 مليار شيكل مع شركة أحواض السفن الإسرائيلية (Israel Shipyards) لبناء خمس "كورفيتات صاروخية" من فئة "ريشيف (Reshef)" لصالح البحرية. خضعت الصفقة لمراجعات دقيقة من اللجنة الوزارية للمشتريات العسكرية ثم لجنة الميزانية الدفاعية في الكنيست، ووقّعها رسميًا إيال زامير بموافقة نتنياهو ووزير الدفاع غالانت ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. مثّلت الصفقة عودة مؤقتة إلى الانضباط المؤسسي، حيث لم تُسجَّل أي تجاوزات أو استثناءات.
تضمنت خطة إعادة التسلّح أيضًا صفقات دولية أبرزها شراء مئات المركبات التكتيكية الأمريكية JLTVs من شركة أوشكوش ديفنس (Oshkosh Defense)، بتمويل من برنامج التمويل العسكري الأجنبي الأمريكي (FMF)، وقد جرى تنفيذ العقد وفق الإجراءات الكاملة وبمراجعة مشتركة بين وزارة الدفاع الأمريكية ونظيرتها الإسرائيلية، فيما تولّى نتنياهو الجانب السياسي من الملف عبر دعم التمويل ضمن خطة التحديث الشاملة للجيش.
أما الصفقة المحورية فكانت اتفاق نوفمبر 2024 مع شركة بوينغ (Boeing) لشراء 25 مقاتلة من طراز F-15IA بقيمة 5.2 مليار دولار، مع خيار شراء 25 طائرة إضافية لاحقًا. ورغم أن الشركة كانت المورد الوحيد، فقد تم توقيع العقد عبر القنوات الرسمية وبموافقة البنتاغون، وجرى الإشراف عليه من قبل غالانت وزامير لتسريع التسليم بحلول 2031، وقد قدم نتنياهو الصفقة بوصفها الركيزة الجوية لإستراتيجية إعادة التسلّح التي بلغت قيمتها الإجمالية نحو 40 مليار دولار منذ بداية الحرب.
ورغم انتظام المسار الرسمي لهذه العقود الكبرى، فإن نتنياهو أظهر ميلاً علنيًا لتقليص الرقابة خلال الحرب. ففي سبتمبر 2025، ألقى خطابًا عُرف باسم "خطاب اسبرطة (Sparta Speech)" دعا فيه إلى "إزالة العوائق البيروقراطية وتجاوز الاعتراضات القانونية لتسريع مشتريات الأسلحة". وقد أثار الخطاب مخاوف حقيقية لدى أجهزة الرقابة والمحاسبة، التي رأت فيه امتدادًا للعقلية التي بررت سابقًا تجاوز القوانين في صفقات الغواصات. حذرت تلك المؤسسات من أن المرونة الطارئة يجب أن تبقى محددة زمنيًا ومؤسسيًا، وإلا تحولت إلى آلية دائمة لإضعاف الشفافية.
وبحلول عام 2025، كان مشهد المشتريات الدفاعية قد انقسم بوضوح إلى مسارين متوازيين:
• الأول – مسار الطوارئ (2023–2024)، الذي أُدير عبر سلطات استثنائية وقرارات مباشرة من مجلس الحرب، وكان نتنياهو فيه الضامن السياسي أكثر من كونه فاعلًا مباشرًا؛
• والثاني – المسار النظامي (2024–2025)، الذي أعاد الانضباط المؤسسي مع استمرار نفوذ مكتبه في رسم الاتجاه العام.
لم تُثبت أي من الصفقات وجود مكاسب مالية شخصية لنتنياهو، لكن المرحلة أظهرت بوضوح أن نظامه السياسي وفّر بيئة مثالية لاستفادة حلفائه والمقرّبين منه من الطفرة المالية في قطاع الدفاع، في ظل تراجع مؤقت للرقابة. وهكذا، برزت مفارقة لافتة: فبينما أعادت الحرب تعريف أولويات الأمن القومي، فإنه أعاد أيضًا إنتاج الدوائر القديمة من النفوذ والربح السياسي، لتظل حدود الشفافية في إسرائيل رهينة تقاطع السياسة بالحرب.
الخاتمة: نمط نتنياهو في التربح وتبييض المال السياسي
عند جمع خيوط الصورة من مختلف جوانبها — غموض الثروة الشخصية، وتراكم قضايا الفساد، وتغلغل شبكات الولاء، وتداخل الصناعات الدفاعية مع القرار السياسي، وصولًا إلى تداعيات حرب غزة — تتضح معالم منظومة متكاملة يدور محورها حول بنيامين نتنياهو، تمزج بين السلطة والمال داخل إطار واحد يعمل تحت غطاء "الأمن القومي". هذه المنظومة لا تكتفي بإدارة الدولة، بل تُدير أيضًا تدفقات المنافع الشخصية من داخل مؤسساتها، لتُنتج نموذجًا للحكم حيث تصبح أدوات الدولة — الجيش، الاقتصاد، والإعلام — وسائط لخدمة مركز القرار. وقد جاءت حرب غزة (2023) لا كنقطة ضعف لهذه البنية، بل مثلت ذروة تمكينها؛ إذ وفّرت حالة الطوارئ غطاءً قانونيًا لتوسيع الصلاحيات وتقليص مستويات الرقابة.
يقف نتنياهو في قمة هذا البناء بوصفه مركزًا للنفوذ يتقاطع عنده القرار السياسي والاقتصادي، وتدور حوله حلقة ضيقة من العائلة والمستشارين والمقرّبين الذين يشكلون الامتداد التنفيذي لإرادته. بعضهم يشغل مواقع رسمية داخل أجهزة الدولة — ما يمنحهم صلاحية اتخاذ القرارات الحساسة في الموازنات أو العقود الدفاعية — فيما يتحرك آخرون في القطاع الخاص لتأمين التمويل أو التوسط في الصفقات، ويُنتج هذا التوزيع المتعمد بين المجالين الرسمي وغير الرسمي منظومة مزدوجة التأثير؛ تتحكم في القرارات العامة من جهة، وتُعيد تدوير المنافع الخاصة من جهة أخرى. وتلعب عائلته، وعلى رأسها زوجته سارة نتنياهو وأبناؤه، دور "المتلقي المالي" للمكاسب التي لا يمكنه تحصيلها بصورة مباشرة، ما يجعل الحدود بين السلطة العامة والمصلحة الخاصة شبه معدومة.
بفضل خبرته الطويلة في الحكم، استطاع نتنياهو تحويل الولاء إلى أداة إدارة، واستخدام البنية البيروقراطية لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية، فقد بيّنت قضايا الإعلام والاتصالات — ولا سيما القضيتان 2000 و4000 — كيف جرى تبادل الامتيازات التنظيمية مقابل مكاسب إعلامية، بحيث تحوّل النفوذ السياسي إلى أداة للحصول على تغطية إيجابية ودعاية انتخابية. وفي فترات الحرب، يتكرّر النمط نفسه في شكل عقود دفاعية عاجلة دون مناقصات، تُمنح لموردين محليين محددين على صلة مباشرة بدائرته، وتُظهر هذه الأنماط تراجعًا متكررًا للضوابط الإجرائية لصالح دائرة مغلقة من المستفيدين الذين يظلون مدينين بولائهم لرئيس الحكومة سياسيًا وماليًا.
تُعد الوساطة القانونية والتجارية العمود الفقري في إخفاء تدفقات المال داخل هذا النظام، فالمحامون والمستشارون المقرّبون يعملون كطبقة عازلة تُخفي العمولات والرشاوى خلف واجهات قانونية. وتُعد قضية الغواصات (3000) أبرز مثال على ذلك: إذ تولّى محاميه الشخصي دافيد شمرون تمثيل الشركة الألمانية الموردة ThyssenKrupp، في موقع مكّنه من تحصيل عمولات غير معلنة مقابل تسهيل الصفقة، بينما تُعاد لاحقًا هندسة هذه الأموال داخل السوق المحلي في صورة استثمارات أو مشاريع عائلية أو نقل أصول إلى وسطاء، وتمنح هذه الطبقات المتعددة من التمويه نتنياهو هامش إنكار واسع (Plausible Deniability)، حيث تبدو كل معاملة ظاهريا قانونية رغم اتصالها المباشر بمصدر منفعة شخصية.
يتجاوز هذا النمط حدود العقود الرسمية إلى شبكة أوسع من المعاملات الشخصية المقنّعة، فالقضية 1000 كشفت كيف تحولت الهدايا الفاخرة — من السيجار والمشروبات إلى المجوهرات — إلى آلية دعم مالي مستترة، كما برزت صفقات عقارية مشبوهة مثل بيع منزل عائلة نتنياهو عام 2015 إلى رجل الأعمال الأمريكي سبنسر باتريتش (Spencer Partrich) بسعر يفوق قيمته السوقية بعدة ملايين، ما وفر للأسرة سيولة مالية تحت غطاء قانوني، وتُظهر هذه الوقائع منهجًا ثابتًا يعتمد على العلاقات الشخصية كقناة مالية مؤجلة، يصعب ربطها مباشرة بقرارات رسمية لكنها تمثل عمليًا عوائد مؤجلة لخدمات سياسية واقتصادية سابقة.
يركّز نتنياهو كذلك على تحويل هذه المنافع إلى ثروة "نظيفة المظهر"، عبر آليات متقنة لتبييض المال السياسي، تشمل هذه الآليات شراء أصول ثابتة بأسماء وسطاء، وتأسيس شركات صورية، واستخدام حسابات خارجية في ملاذات ضريبية مثل جزيرة جيرسي (Jersey)، إضافة إلى استخدام أبنائه أسماء بديلة في صفقات عقارية. بهذه الطريقة، تتحول العوائد غير المشروعة مع الوقت إلى أصول شرعية قانونيًا — عقارات، أسهم، أو استثمارات — وهو ما يتعذر معه الربط القضائي بين القرار السياسي وتضخم الثروة.
تعتمد هذه المنظومة على حماية مؤسسية ممنهجة تتيح لها العمل دون مساءلة حقيقية، فنتنياهو يوظّف أدوات الدولة ذاتها — من السرية الأمنية، والسلطات التنفيذية، وتعيين الموالين في مناصب الرقابة — لتأمين نفسه ضد التحقيق أو المساءلة. وتُصنّف العقود الدفاعية الحساسة تحت بند “الأمن القومي”، ما يقيها من المراجعة البرلمانية أو الصحفية الفورية. ويكشف مثال عام 2025 حين حظرت الرقابة العسكرية مؤقتًا نشر تقرير صحفي عن شراء ابنه شقة في الخارج، مبررة القرار بـ"اعتبارات أمنية"، كيف يمكن تحويل أدوات الأمن القومي إلى درع شخصي لحماية مسؤول بعينه، كما يوظّف نتنياهو باستمرار خطاب “الاضطهاد السياسي” لتقويض الثقة في القضاء والشرطة، وما قد يتخذونه من إجراءات ضده، ما يؤدي إلى تآكل المساءلة العامة، خصوصًا خلال الحروب حين يتم استخدام شعارات سياسية وخلق تحديات وجودية تجعل النقد شكلا من أشكال الخيانة الوطنية.
في المحصلة، يتجلى أمامنا نموذج قيادة دمجت بين السلطة العامة والمصلحة الخاصة داخل شبكة مغلقة من الولاءات والمكاسب المتبادلة. فالأدلة المتراكمة — من الرشاوى والهدايا إلى تضخم الثروة العائلية وشهادات المقربين — تشير إلى استفادة منهجية من المنصب العام في تحقيق مكاسب مالية وسياسية. وقد جاءت حرب غزة 2023 لتوسّع هذه الديناميكية، إذ تحولت حالة الطوارئ إلى "مسرّع هيكلي" يتيح لنتنياهو إدارة الأموال العامة والعقود الدفاعية بحرية أكبر، وهو ما عزّز موقعه السياسي ومكاسبه غير المباشرة.
وفي النهاية تُقدم هذه الدراسة الاستقصائية نموذجًا تحليليًا متكاملًا يربط بين أسلوب الحكم، وآليات بناء وتراكم الثروة، وأدوات الحماية المؤسسية، وتكشف كيف يتحوّل جهاز الدولة الرسمي إلى نظام شبه مغلق لتدوير النفوذ والمال دون مراقبة، ويبقى السؤال الجوهري المطروح أمام مؤسسات الرقابة الإسرائيلية: هل تمتلك هذه المؤسسات القدرة الفعلية على تفكيك هذه الشبكة وكشف مسارات المال والسلطة؟ أم أن ستار الأمن القومي سيبقى حاجزًا يحمي القلة المستفيدة من المحاسبة؟ إن تتبّع حركة الأموال عبر العقود الدفاعية، ومراقبة الأصول التي تنتقل تدريجيًا إلى الملكية الأسرية، يظل المسار الأكثر فعالية لكسر حلقة الإفلات من العقاب وإعادة بناء آليات الشفافية.

















0 تعليق