نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"نظرية أحمر الشفاه"... حين تتحوّل الرفاهية إلى مقاومة اقتصادية - المصدر 24, اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 08:45 صباحاً
المصدر 24 - عندما تفاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان، وجدنا أنفسنا مكبّلين بين سعر صرف الدولار الذي لم يهدأ كنبض القلب، وبين ارتفاع أسعار السلع الذي تجاوز كل حدود. بعضهم تعامل مع الأزمة بذكاء، يتنقّل بين شراء الدولار وبيعه، فيما فضّل آخرون الغوص في رفاهية شخصية تُنسيهم قسوة الواقع.
تزامنت تلك المرحلة مع انتشار "كورونا"، فالتزمت النساء –عاملات وغير عاملات – منازلهن، وحاولن رسم مساحات صغيرة من الجمال والراحة وسط العزلة. انتشرت فيديوهات لنساء يعتنين بأنفسهن، يقدّمن نصائح للعالم حول الاهتمام بالنفس، ولسان حالهن أن الجمال يمكن أن يكون شكلاً من أشكال المقاومة. في ذلك الحين، كان "الديليفري" شريان الحياة الوحيد... ومن أكثر الأشياء التي نقلها شبان التوصيل مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة.
ما كان هذا السلوك مصادفة، إنما عكس ظاهرة اقتصادية أعمق. يقول خالد رمضان، الخبير الاقتصادي ورئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، لـ"النهار" إن "نظرية أحمر الشفاه ليست ظاهرة تسويقية، بل مؤشر اقتصادي سلوكي يُظهر أن الإنسان لا يتخلى عن كرامته حتى في أحلك الظروف". ويضيف: "في لبنان المأزوم اليوم، كل أحمر شفاه يُباع هو رسالة صغيرة تقول: ما زلت أملك خياراً"، فالرفاهية في مثل هذه الأوقات ليست ترفاً، بل ضرورة نفسية.
يوضح رمضان أن "نظرية أحمر الشفاه" ليست وليدة اليوم، فقد سُجّلت أول مرة خلال حقبة "الكساد الكبير" في ثلاثينات القرن الماضي عندما ارتفعت مبيعات أحمر الشفاه 25% رغم انهيار سوق السيارات. وتكرّر الأمر خلال أزمة 2008 العالمية حين زادت مبيعات مستحضرات التجميل 9% في الولايات المتحدة، كما شهد 2020، في ذروة كورونا، ارتفاعاً عالمياً في مبيعات العطور المنزلية بنسبة 34%.
فلماذا يزداد الإنفاق على الرفاهية في ظل الركود الاقتصادي؟ يجيب رمضان بأن نظرية "أحمر الشفاه" في علم الاقتصاد السلوكي من أبرز المؤشرات على كيفية تكيّف المستهلكين مع الأزمات، "ففي أوقات الركود أو التدهور المالي، تميل مبيعات المنتجات الرخيصة نسبياً والمُرتبطة بالرفاهية الشخصية – مثل أحمر الشفاه والعطور ومستحضرات التجميل، وحتى القهوة الفاخرة – إلى الارتفاع، في حين يتراجع الطلب على السلع الكمالية الباهظة الثمن كالمجوهرات والسيارات الفارهة".
لبنان مثال عملي على ذلك، فرغم التضخم المفرط وتراجع القدرة الشرائية مع انهيار الليرة اللبنانية، ارتفعت مبيعات أحمر الشفاه من الماركات المتوسطة 18% في صيدليات بيروت الكبرى خلال العامين الماضيين، في حين تراجعت مبيعات الذهب 42%. حتى مبيعات القهوة المطحونة الفاخرة ارتفعت 11%، رغم أن سعرها قفز أكثر من 300% منذ 2019. وتعبّر الأرقام، بحسب رمضان، عن محاولة اللبنانيين استبدال "الرفاهية الكبرى" بـ"الرفاهية الصغيرة" كآلية للحفاظ على الإحساس بالسيطرة والقيمة الذاتية، مضيفاً: "حين يفقد الفرد السيطرة على الأمور الكبرى كالتعليم والسكن والادخار، يلجأ إلى تفاصيل صغيرة تمنحه شعوراً فورياً بالسعادة. وأحمر الشفاه يجعل المرأة تشعر بأنها ما زالت تهتم بنفسها، في حين أن شراء حقيبة بأكثر من مليون ليرة بات حلماً بعيد المنال".

يرى رمضان أن هذه المشتريات الصغيرة تُسوّق اليوم كنوع من "الاستثمار في المظهر"، ما يعزز الثقة بالنفس وفرص النجاح في العمل أو العلاقات الاجتماعية، مستشهداً بدراسة أجرتها جامعة هارفرد في 2022، أظهرت أن النساء اللواتي يستخدمن مستحضرات التجميل يومياً يشعرن بثقة أعلى بنسبة 27% أثناء المقابلات الوظيفية. ويعلّق قائلاً: "في لبنان، يُقاس النجاح إلى حدّ كبير بالمظهر الخارجي، والتخلي الكامل عن الرفاهية يُفسَّر استسلاماً، ولهذا يفضّل المستهلك اللبناني دفع 200 ألف ليرة لجلسة مانيكير شهرية على أن يشعر بالإهمال".
في لبنان، الأزمة غير عابرة، بل ممتدة ومتشعبة منذ 2019، ما جعل "الرفاهية الصغيرة" وسيلة مقاومة ناعمة ضد الانهيار، وطريقة للحفاظ على الكرامة في بلد يعيش أزماته اليومية بنبض من الصمود والجمال.




0 تعليق